فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فمن ذلك كفرهم كما قال تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا} [سورة الكهف: 6].
ومنه حلول العذاب بهم مثل ما حلّ بهم يوم بدر فإنهم سادة أهل مكة، فلعلّ رسول الله أن يتحسّر على إصرارهم حتى حلّ بهم ما حلّ من العذاب.
ففي هذا النهي كناية عن قلّة الاكتراث بهم وعن توعدهم بأن سيحلّ بهم ما يثير الحزن لهم، وكناية عن رحمة الرسول بالنّاس.
ولما كان هذا النّهي يتضمنّ شدّة قلب وغلظة لا جرم اعترضه بالأمر بالرفق للمؤمنين بقوله: {واخفض جناحك للمؤمنين}.
وهو اعتراض مراد منه الاحتراس.
وهذا كقوله: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} [سورة الفتح: 29].
وخفض الجناح تمثيل للرفق والتواضع بحال الطائر إذا أراد أن ينحطّ للوقوع حفض جناحه يريد الدنوّ، وكذلك يصنع إذا لاعب أنثاه فهو راكن إلى المسالمة والرفق، أو الذي يتهيأ لحضن فراخه.
وفي ضمن هذه التمثيلية استعارة مكنية، والجناح تخييل.
وقد بسطناه في سورة الإسراء في قوله: {واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة} [سورة الإسراء: 24]، وقد شاعت هذه التمثيلية حتى صارت كالمثَل في التواضع واللّين في المعاملة.
وضد ذلك رفع الجناح تمثيل للجفاء والشدّة.
ومن شعر العلامة الزمخشري يخاطب مَن كان متواضعًا فظهر منه تكبرّ ذكره في سورة الشعراء:
وأنْتَ الشّهيرُ بخفض الجناح ** فلا تكُ في رفعه أجدلًا

وفي هذه الآية تمهيد لما يجيء بعدها من قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [سورة الحجر: 94].
وجملة {وقل إنى أنا النذير المبين} عطف على جملة {ولا تحزن عليهم}.
فالمقولُ لهم هذا القولُ هم المتحدّث عنهم بالضّمائر السابقة في قوله تعالى: {منهم} وقوله: {عليهم}.
فالتقدير: وقل لهم لأن هذا القول مراد منه المتاركة، أي ما عليّ إلاّ إنذاركم، والقرينة هي ذكر النذارة دون البشارة لأن النذارة تناسب المكذبين إذ النذارة هي الإعلام بحدث فيه ضرّ.
والنّذير: فعيل بمعنى مُفعِل مثل الحكيم بمعنى المُحكم، وضرب وجيع، أي موجع.
والقصر المستفاد من ضمير الفصل ومن تعريف الجزءين قصر قلب، أي لست كما تحسبون أنكم تغيظونني بعدم إيمانكم فإنّي نذير مبين غير متقايض معكم لتحصيل إيمانكم.
و{المبين}: الموضح المصرح.
{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)}
التشبيه الذي أفاده الكاف تشبيه بالذي أنزل على المقتسمين.
وما موصولة أو مصدرية، وهي المشبه به.
وأما المشبه فيجوز أن يكون الإيتاءَ المأخوذ من فعل {آتيناك سبعًا من المثاني} [سورة الحجر: 87]، أي إيتاء كالذي أنزلنا أو كإنزالنا على المقتسمين.
شُبّه إيتاء بعض القرآن للنبيء بما أنزل عليه في شأن المقتسمين، أي أنزلناه على رسل المقتسمين بحسب التفسيرين الآتيين في معنى {المقتسمين}.
ويجوز أن يكون المشبّهُ الإنذارَ المأخوذَ من قوله تعالى: {إني أنا النذير المبين} [سورة الحجر: 89]، أي الإنذار بالعقاب من قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} [سورة الحجر: 92 93].
وأسلوب الكلام على هذين الوجهين أسلوب تخلّص من تسلية النبي إلى وعيد المشركين الطاعنين في القرآن بأنهم سيحاسبون على مطاعنهم.
وهو إما وعيد صريح إن أريد بالمقتسمين نفسُ المراد من الضميرين في قوله تعالى: {أزواجًا منهم ولا تحزن عليهم} [سورة الحجر: 88].
وحرف على هنا بمعنى لام التّعليل كما في قوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [سورة البقرة: 185]، وقوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [سورة المائدة: 4]، وقول علقمة بن شيبان من بني تيم الله بن ثعلبة:
ونطاعن الأعداء عن أبنائنا ** وعلى بصائرنا وإن لم نُبصر

ولفظ {المقتسمين} افتعال من قَسم إذا جَعل شيئًا أقسامًا.
وصيغة الافتعال هنا تقتضي تكلف الفعل.
والمقتسمون يجوز أن يراد بهم جمع من المشركين من قريش وهم ستّة عشر رجلًا، سنذكر أسماءهم، فيكون المراد بالقرآن مسمى هذا الاسم العَلَم، وهو كتاب الإسلام.
ويجوز أن يراد بهم طوائف أهل الكتاب قَسّموا كتابهم أقسامًا، منها ما أظهروه ومنها ما أنسوه، فيكون القرآن مصدرًا أطلق بمعناه اللغوي، أي المقروء من كتبهم؛ أو قسّموا كتاب الإسلام، منه ما صدّقوا به وهو ما وافق دينهم، ومنه ما كذّبوا به وهو ما خالف ما هم عليه.
وقد أجمل المراد بالمقتسمين إجمالًا بيّنه وصفهم بالصلة في قوله تعالى: {الذين جعلوا القرآن عضين}؛ فلا يَحتمل أن يكون المقتسمون غير الفريقيْن المذكوريْن آنفًا.
ومعنى التقسيم والتجزئة هنا تفرقة الصّفات والأحوال لا تجزئة الذّات.
و{القرآن} هنا يجوز أن يكون المراد به الاسم المجعول علمًا لكتاب الإسلام.
ويجوز أن يكون المراد به الكتاب المقروء فيصدق بالتوراة والإنجيل.
و{عضين} جمع عضة، والعضة: الجزء والقطعة من الشيء.
وأصلها عضو فحذفت الواو التي هي لام الكلمة وعوض عنها الهاء مثل الهاء في سنة وشفّة.
وحذف اللاّم قصد منه تخفيف الكلمة لأن الواو في آخر الكلمة تثقل عند الوقف عليها، فعوضوا عنها حرفًا لئلا تبقى الكلمة على حرفين، وجعلوا العوض هاء لأنّها أسعد الحروف بحالة الوقف.
وجمع عضة على صيغة جمع المذكر السّالم على وجه شاذ.
وعلى الوجهين المتقدّمين في المراد من القرآن في هذه الآية فالمقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين هم أهل الكتاب اليهود والنصارى فهم جحدوا بعض ما أنزل إليهم من القرآن، أطلق على كتابهم القرآن لأنه كتاب مقروء، فأظهروا بعضًا وكتموا بعضًا، قال الله تعالى: {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرًا} [سورة الأنعام: 91]. فكانوا فيما كتموه شبيهين بالمشركين فيما رفضوه من القرآن المنزّل على محمد وهم أيضًا جعلوا القرآن المنزل على محمد عضين فصدّقوا بعضه وهو ما وافق أحوالهم، وكذبوا بعضه المخالف لأهوائهم مثل نسخ شريعتهم وإبطال بنوّة عيسى لله تعالى، فكانوا إذا سألهم المشركون: هل القرآن صدق؟ قالوا: بعضه صدق وبعضه كذب، فأشبه اختلافُهم اختلافَ المشركين في وصف القرآن بأوصاف مختلفة، كقولهم: {أساطيرُ الأولين} [سورة الأنعام: 25]، وقولُ كاهن، وقول شاعر.
وروي عن قتادة أن المقتسمين نفر من مشركي قريش جمعهم الوليد بن المغيرة لما جاءَ وقت الحجّ فقال: إن وفود العرب ستقدَم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجْمعوا فيه رأيًا واحدًا، فانتدب لذلك ستة عشر رجلًا فتقاسموا مداخل مكة وطرقها ليُنفّروا الناس عن الإسلام، فبعضهم يقول: لا تغترّوا بهذا القرآن فهو سحر، وبعضهم يقول: هو شعر، وبعضهم يقول: كلام مجنون، وبعضهم يقول: قول كاهن، وبعضهم يقول: هو أساطير الأولين اكتتبها، فقد قسموا القرآن أنواعًا باعتبار اختلاف أوصافه.
وهؤلاء النّفر هم: حنظلة بن أبي سفيان، وعتبة بن ربيعة، وأخوه شَيبة، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وأخوه العاص، وأبو قيس بن الوليد، وقيس بن الفاكه، وزهير بن أميّة، وهلال بن عبد الأسود، والسائب بن صيفي، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الحجّاج، وأميّة بن خلف، وأوس بن المغيرة.
واعلم أن معنى المقتسمين على الوجه المختار المقتسمون القرآن.
وهذا هو معنى {جعلوا القرآن عضين}، فكان ثاني الوصفين بيانًا لأولهما وإنّما اختلفت العبارتان للتفنّن.
وأن ذمّ المشبّه بهم يقتضي ذمّ المشبهين فعلم أن المشبهين قد تلقوا القرآن العظيم بالردّ والتكذيب.
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)}
الفاء للتفريع، وهذا تفريع على ما سبق من قوله تعالى: {وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل} [سورة الحجر: 85].
والواو للقسم، فالمفرع هو القسم وجوابُه.
والمقصود بالقسم تأكيد الخبر.
وليس الرسول عليه الصلاة والسلام ممن يشكّ في صدق هذا الوعيد؛ ولكن التأكيد متسلطّ على ما في الخبر من تهديد معاد ضمير النصب في {لنسألنهم}.
ووصف الربّ مضافًا إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن في السؤال المقسم عليه حَظًّا من التنويه به، وهو سؤال الله المكذّبين عن تكذيبهم إياه سؤال ربّ يغضب لرسوله عليه الصلاة والسلام.
والسؤال مستعمل في لازم معناه وهو عقاب المسؤول كقوله تعالى: {ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم} [سورة التكاثر: 8]. فهو وعيد للفريقين.
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)}
تفريع على جملة {ولقد آتيناك سبعًا من المثاني} [سورة الحجر: 87]. بصريحه وكنايته عن التسلية على ما يلاقيه من تكذيب قومه.
نزلت هذه الآية في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة ورسول الله عليه الصلاة والسلام مختف في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
رُوي عن عبد الله بن مسعود قال: ما زال النبي مستخفيًا حتى نزلتْ: {فاصدع بما تؤمر} فخرج هو وأصحابه.
يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت سورة المدثّر كان يدعو النّاس خفية وكان من أسلم من النّاس إذا أراد الصّلاة يذهب إلى بعْض الشّعاب يستخفي بصلاته من المشركين، فلحقهم المشركون يستهزئون بهم ويعِيبون صلاتهم، فحدث تضارب بينهم وبين سعد بن أبي وقاص أدمَى فيه سعد رجلًا من المشركين.
فبعد تلك الوقعة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دار الأرقم عند الصّفا فكانوا يقيمون الصّلاة بها واستمروا كذلك ثلاث سنين أو تزيد، فنزل قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر} الآية.
وبنزولها ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الاختفاء بدار الأرقم وأعلن بالدّعوة للإسلام جهرًا.
والصدع: الجهر والإعلان.
وأصله الانشقاق.
ومنه انصداع الإناء، أي انشقاقه.
فاستعمل الصدع في لازم الانشقاق وهو ظهور الأمر المحجوب وراء الشيء المنصدع؛ فالمراد هنا الجهر والإعلان.
وما صدقُ {ما تؤمر} هو الدّعوة إلى الإسلام.
وقَصْدُ شمول الأمر كلّ ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتبليغه هو نكتة حذف متعلّق {تؤمر}، فلم يصرح بنحو بتبليغه أو بالأمر به أو بالدّعوة إليه.
وهو إيجاز بديع.
والإعراض عن المشركين الإعراض عن بعض أحوالهم لا عن ذواتهم.
وذلك إبايتهم الجهر بدعوة الإسلام بين ظهرانيهم، وعن استهزائهم، وعن تصدّيهم إلى أذى المسلمين.
وليس المراد الإعراض عن دعوتهم لأن قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر} مانع من ذلك، وكذلك جملة {إنا كفيناك المستهزئين}. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ}.
لما بين تعالى أنه آتى النَّبي صلى الله عليه وسلم السبع المثاني والقرآن العظيم، وذلك أكبر نصيب، وأعظم حظ عند الله تعالى، نهاه أن يمد عينيه إلى متاع الحياة الدنيا الذي متع به الكفار. لأن من أعطاه ربه جل وعلا النصيب الأكبر والحظ الأوفر، لا ينبغي له أن ينظر إلى النصيب الأحقر الأخس، ولاسيما إذا كان صاحبه إنما أعطيه لأجل الفتنة والاختبار، وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله في طه: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى} [طه: 130-132]، والمراد بالأزواج هنا: الأصناف من الذين متعهم الله بالدنيا.
قوله تعالى: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}.
الصحيح في معنى هذه الآية الكريمة: أن الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الحزن على الكفار إذا امتنعوا من قبول الإسلام، ويدل لذلك كثرة ورود هذا المعنى في القرآن العظيم. كقوله: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، وقوله: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6]، وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} [المائدة: 68]. إلى غير ذلك من الآيات.
والمعنى: قد بلغت وليست مسؤولًا عن شقاوتهم إذا امتنعوا من الإيمان، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، فلا تحزن عليهم إذا كانوا أشقياء.
قوله تعالى: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
أمر الله جل وعلا نبيه في هذه الآية الكريمة بخفض جناحه للمؤمنين، وخفض الجناح كناية عن لين الجانب والتواضع، ومنه قول الشاعر:
وأنت الشهير بخفض الجناح ** فلا تك في رفعه أجدلا

وبين هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في الشعراء: {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الشعراء: 215]، وكقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [آل عمران: 159]. إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من دليل خطاب الآية الكريمة- أعني مفهوم مخالفتها- أن غير المؤمنين لا يخفض لهم الجناح، بل يعاملون بالشدة والغلظة.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر. كقوله تعالى: {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، وقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54]. كما قدمناه في المائدة.
{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)}
في المراد بالمقتسمين أقوال للعلماء معروفة، وكل واحد منها يشهد له قرآن. إلا ان في الآية الكريمة قرينة تضعف بعض تلك الأقوال:
الأول- أن المراد بالمقتسمين: الذين يحلفون على تكذيب الريل ومخالفتهم، وعلى هذا القول فالاقتسام افتعال من القسم بمعنى اليمين، وهو بمعنى التقاسم.
ومن الآيات التي ترشد لهذا الوجه قوله تعالى عن قوم صالح: {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49]. الآية. اي نقتلهم ليلًا، وقوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38]، وقوله: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} [إبراهيم: 44]، وقوله: {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} [الأعراف: 49]. إلى غير ذلك من الآيات. فكأنهم لا يكذبون بشيء إلا اقسموا عليه. فسموا مقتسمين.